تجارب علاجية مع أمراض مختلفة مرضى كتبوا تجاربهم مع أمراض عديدة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
05-04-2023, 03:54 PM | #1 | ||||||||||||||
شكراً: 9,478
تم شكره 17,570 مرة في 8,937 مشاركة
|
على مدار التاريخ، كان ضمان العمر المديد والحصول على الشباب الدائم محط اهتمام البشر، في الأساطير الإسكندنافية كانت "إدون" هي حارسة التفاح ومانحة الشباب الأبدي، أما في اليابان فهناك أسطورة "هابياكو بيكوني"، الراهبة البالغة من العمر 800 عام، والتي ظلت شابة طوال عمرها بعد أكل لحم حورية البحر عن طريق الخطأ. نجد كذلك أن الفكرة نفسها كانت هاجسا لدى أكبر المفكرين والفلاسفة والروائيين طوال تاريخنا، وبالطبع منذ ظهور الطب المعاصر كانت الهواجس نفسها حاضرة بقوة، إلا أن دراسة صدرت قبل أيام في دورية "سيل (Cell)" المرموقة تأخذ هذه الفكرة إلى منطقة جديدة متفردة حقا، في هذه الدراسة استعادت فئران عجوزة كانت عمياء بصرها، وأصبحت أدمغتها أذكى وأكثر شبابا، وبنت أجسادها أنسجة عضلية وكلى أكثر صحة! بل هناك ما هو أغرب، حيث تمكن ديفيد سينكلير، أستاذ علم الوراثة في معهد بلافاتنيك بكلية الطب بجامعة هارفارد، ورفاقه في تجاربهم من تسريع معدلات الشيخوخة في الفئران بحيث تصل إلى عمر الشيخوخة بعد أسابيع قليلة من ميلادها! لكن الأهم من ذلك كله هي الفرضية التي ابتكرها سينكلير قبل أكثر من عقد من الزمن، والتي سوف تُعَد، إن تأكدت، بمثابة ثورة في علم الشيخوخة. ما الشيخوخة أصلا؟ تقليديا، استندت النظريات التي تشرح الشيخوخة إلى فكرة واحدة أساسية، نحن نشيخ ببساطة لأن حمضنا النووي يتلف مع الزمن. الحمض النووي هو ببساطة شفرات الحياة التي ترثها عن أبويك. تخيل جسمك كفيلم سينما معروض على الشاشة، هذا الفيلم بالأصل يتكون من شريط طويل، مشفرة عليه المشاهد، هنا يلتقي البطل بحبيبته لأول مرة، وهنا يعترف لها بحبه، وفي موضع ثالث على الشريط تتركه لأحزانه وحيدا. خلايانا البشرية كذلك تحتوي على شريط طوله متران من الوحدات الكيميائية الممثلة للحمض النووي، كل مجموعة من تلك الوحدات تمثل جينا، هنا جين يعبّر عن لون شعرك، وهنا جين آخر يعبر عن لون عينيك، وهناك جين يعبر عن طول عظامك… إلخ، وصولا إلى أدق التشكلات الجزيئية والتفاعلات الكيميائية في أجسامنا. مع الزمن يختبر هذا الشريط الطويل من المعلومات مجموعة من الطفرات، عادة ما تكون هذه الطفرات غير مفيدة وتسمح بتلف تدريجي للحمض النووي، لو أن أحد الأفلام التي تحبها كان محملا على أسطوانة مدمجة، فإن كثرة الاستخدام والتعرض للظروف الجوية وطبيعة مادة الأسطوانة نفسها تدفعها مع الزمن لتصبح أقل جودة، ستعمل ببطء، وستتأخر ردة فعلها، ومن حين لآخر قد تتوقف أو تتعطل بعض المشاهد، وفي مرحلة ما سوف تتوقف عن العمل تماما. كذلك حمضنا النووي، يتلف مع الزمن، وبالتبعية تتلف وظائف الخلايا، وفي مرحلة ما يتوقف كل شيء، ونموت. غير أن سينكلير يرى أن هذه الفرضية خاطئة تماما، ليست المعلومات المحملة على حمضنا النووي هي ما يتلف (وبالتبعية فهذا خطأ من شبه المستحيل إصلاحه)، بل شيء آخر. يعيدنا ذلك إلى الحمض النووي مرة أخرى، فكما أسلفنا، هو طويل جدا مقارنة بحجم الخلية الصغير جدا، يكفيك أن تعرف أن كل سنتيمتر مربع من جلدك يحتوي على 100 ألف خلية، كيف يمكن وضع كل هذا الشريط داخل هذه المساحة الضيقة جدا؟ علامات على الطريق بسبب طول الحمض النووي خاصتنا، فإنه يلتف حول بروتينات تدعى "الهستونات"، بنفس الطريقة التي تلف بها الخيط على إحدى البكرات، تتجمع تلك الهستونات في كتل أكبر تسمى الكروموسومات. كانت مشكلة العلماء دائما هي التساؤل عن سبب تنوع أشكال خلايا الجسم، فهناك تقريبا 200 نوع من الخلايا متنوعة التشريح والوظائف، بينما نمتلك الحمض النووي نفسه في كل خلية. كيف إذن يعرف الحمض النووي الخاص بكل خلية منها أنه يريد صنع تلك الخلية تحديدا وليست الأخرى؟ كيف يعرف أننا نريد "كبدا" هنا و"رئة" هناك و"مثانة" هنالك؟ يرتبط ذلك بما نسميه التعبير الجيني "Gene Expression"، وهو ببساطة عملية تحويل تلك المعلومات المحملة على الحمض النووي لبروتينات ثم خلايا فعلية تكوّن أجسامنا. لكن ذلك يتم بشكل انتقائي، عبر مجموعة من العلامات (Tags) الكيميائية التي يمكن لها أن ترتبط بالحمض النووي لتفعيل أو تثبيط جين ما على حساب الآخر. فحينما نود مثلا صناعة "كبد"، فإن تركيز تلك العلامات الكيميائية المسؤولة عن تفعيل القطع من الحمض النووي التي تصنع خلايا كبدية سوف يكون كبيرا في تلك الخلايا تحديدا التي يفترض أن تصنع كبدا، فَتَحَت تلك العلامات الكيميائية بابا لعلم جديد ندعوه علم ما فوق الجينات أو علم التَّخَلُّق (Epigenetics)، وهو يدرس تأثيرات تلك العلامات الكيميائية على جيناتنا. يشبه تأثير تلك العلامات الكيميائية المختلفة على الحمض النووي نفسه أن تكتب الجملة نفسها بعلامات ترقيم مختلفة. تشتهر على وسائل التواصل الاجتماعي قصة تقول إن قاضيا قضى على رجل بالإعدام، فأرسله للشرطة مع لافتة على رقبته مكتوب عليها: "العفو عنه مستحيل. ينقل إلى السجن ويعدم"، لكن الرجل في الطريق للشرطة تمكن بطريقة ما من تغيير علامات الترقيم في الجملة فأصبحت: "العفو عنه. مستحيل ينقل إلى السجن ويعدم". الشيخوخة.. فرضية للمعلومات لكن هناك مشكلات بالفعل تواجه فرضية الشيخوخة عبر تراكم الطفرات، منها مثلا أن معدل الطفرات في حالة الشيخوخة قد يكون أقل في بعض الأحيان، كما أنه لا يوجد تناسب طردي واضح بين الأعراض المرضية للشيخوخة ومعدلات الطفرات داخل الجسد. هنا تظهر فرضية سينكلير التي يؤكدها بدراسته الأحدث (وأعماله السابقة كذلك)، فالمحتوى الجيني الخاص بنا، هذا الكتاب الذي يحوي شفرات عمل كل خلايانا، لا يتغير، يظل كما هو، ولكن ما يختل مع الزمن هي تلك العلامات الكيميائية. هنا تحديدا تظهر إمكانية جديدة تماما تختلف مع فرضية الشيخوخة بسبب الطفرات، لأن تلك العلامات الكيميائية يسهل التعامل معها. في تلك النقطة يمكن أن ننظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، وهي رؤية معلوماتية مستمدة من فكرة ابتكرها "كلود شانون" الرياضياتي الأميركي، وأحد أهم مؤسسي نظرية المعلومات في الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث كان شانون مُهتمّا بالفوضى الحادثة أثناء نقل الرسائل الراديوية من منطقة لأخرى، لأن تلك الرسائل لا تصل إلى مكانها في كل مرة ويؤثر ذلك على التواصل بين السفن والطائرات وخاصة في نطاق عسكري. استجابة لتلك المشكلة، وضع صديقنا منظومة تحكُم التواصل بين "المُرسِل" و"المستقبِل" بإضافة عامل وسيط هو "المُلاحظ (Observer)"، الذي يراقب الإشارة ويحصل على نسخة منها، ويعيد إرسالها إن لم تصل للمستقبِل. حاليا، فإن البروتوكول الذي يدير الإنترنت كله يعتمد على تلك المنظومة، وهذا هو السبب في أنك أصلا تقرأ هذا الكلام الآن (ما نعرفه حاليا باسم "تي سي بي/آي بي (TCP/IP)"). يسأل سينكلير وفريقه سؤال شانون نفسه: إذا كانت هناك إشارة سليمة في طفولتنا، لكنها مع الزمن تلفت فتسببت في الشيخوخة، هل يمكن أن توجد في أجسامنا نسخة احتياطية منها ما زالت تحتوي على المعلومات الأساسية من العلامات الكيميائية التي ترتبط بالحمض النووي؟ إجابة الرجل أنها موجودة، ويمكن استعادتها، هنا يضرب سينكلير مثالا: إذا كانت نسخة "الويندوز" الخاصة بك تالفة، فإن ذلك لن يدفعك للرعب مثل أن يكون هناك عطل في معالج الحاسوب أو ذاكرات الوصول العشوائي (الرامات) أو القرص الصلب، لأنه يمكن لك في أي وقت تشغيل النسخة الاحتياطية وإعادة الويندوز لحالته الأولى، في هذه المقاربة يكون الخطأ في نسخة الويندوز هو خطأ فوق جيني، أما الخطأ في جهاز الحاسوب نفسه فهو خطأ جيني، لحسن الحظ فإن الشيخوخة، وفقا لسينكلير، ليست تلفا في الأخير، بل في الأول. عوامل ياماناكا التي تدوّر عقارب الساعة للخلف حسنا، الآن يمكن أن نتحدث عن نتائج الدراسة الجديدة، حيث تمكن الفريق من تطوير طريقة لإعادة تشغيل النسخة الاحتياطية من التعليمات "فوق الجينية"، وبالتبعية إزالة الإشارات الفاسدة التي تضع الخلايا على طريق الشيخوخة. بدأت التجارب بإدخال فواصل في الحمض النووي للفئران الصغيرة في 20 موقعا (كما ضربنا مثالا بعلامات الترقيم قبل قليل)، هذا هو ما يحدث بالفعل مع الزمن عن طريق تأثيرات متنوعة، بما في ذلك التعرض للتلوث وأشعة الشمس وأشياء أخرى مثل التدخين والحميات غير الصحية والتي تسرع الاتجاه للشيخوخة. في غضون أسابيع قليلة، لوحظ أنها بدأت بالفعل في إظهار علامات التقدم في السن، ليس فقط في الشعر الذي بدأ يتحول للرمادي أو الجلد الذي ظهرت عليه الثنيات، ولكن كذلك على مستوى التمثيل الغذائي وحيوية أجهزة الجسم. الفئران الآن جاهزة للعمل، فقد أصبحت مسنة، بقي أن يعمل سينكلير وفريقه على تشغيل النسخة الاحتياطية، جاء ذلك في شكل علاج جيني يدفع الخلايا إلى إعادة برمجة نفسها، وتشغيل العلامات فوق الجينية التي تحدد هويتها. اعتمد هذا العلاج الجيني الذي أُعطي للفئران على ما يسمى بـ"عوامل ياماناكا" (Yamanaka stem cells factors)، وهي مجموعة من 4 جينات اكتشفها الياباني شينيا ياماناكا وحصل بسببها على جائزة نوبل في الطب عام 2006. بإمكان هذه العوامل تدوير عقارب الساعة للخلف بالنسبة للخلايا البالغة، بحيث تعيدها من جديد إلى "خلايا جذعية جنينية" (Embryonic stem cell) جاهزة للتمايز مرة أخرى، إنها الخلايا نفسها التي وُجدت في الأجنة قبل أن تنمو أجسامها مع الزمن، وتبدأ العوامل فوق الجينية عملها عليها لتصبح أجهزة، من كبد ورئة وطحال ومخ. لكنك بالتأكيد لا تريد أن تعكس اتجاه الخلايا في هذه الفئران لتعود إلى نقطة الصفر، ستموت فورا لا شك، إلا أن فكرة سينكلير ورفاقه كانت ألا نقوم بمحو التاريخ الفوق جيني للخلايا تماما، ولكن إعادة تشغيله بما يكفي للوصول للنسخة الأصلية. مع الكثير من التجريب خلال عقد مضى وجد هذا الفريق أن استخدام 3 من العوامل الأربعة أدى إلى تدوير عقارب الساعة الخلوية للخلف بنسبة 57%، وهو ما يكفي لجعل الفئران شابة مرة أخرى! هل سنشهد انعكاس الشيخوخة قريبا؟ حسنا، في تلك النقطة تحديدا يجب أن نتوقف قليلا للنظر إلى الجهة الأخرى، فما أنجزه سينكلير وفريقه لم يكن إلا خطوة لإثبات صحة نظرية جديدة، إلا أن العلماء ليسوا متأكدين من صحتها تماما، فمثلا، هل ما أصيبت به الفئران من تغير في الحال بعد إضافة تلك الفواصل في حمضها النووي هو شيخوخة، أم أنه أعراض تشبه الشيخوخة؟ هذا سؤال مهم لا شك، لأننا أساسا لا نتمكن بدقة شديدة وعلى المستوى الوظيفي والجزيئي من تعريف الشيخوخة، ومن ثم فإن ذلك يضع نظرية الشيخوخة الجديدة محل شك. إلى جانب ذلك، فإن العلماء في هذا النطاق لا يفهمون بشكل كامل الآثار المترتبة على استخدام عوامل ياماناكا، فمن المتوقع أنه قد تكون هناك آثار ضارة على المستوى الخلوي بعد تطبيقها على نطاق أوسع، ولا بد من دراسة الأمر بشكل أكثر تعمقا وفي ظل سياقات تجريبية مختلفة، أضف لذلك أن نتائج الدراسات في هذا النطاق، وإن كانت جوهرية، فإن حالات التحسن كانت متوسطة ولم ترجع الخلايا إلى نسختها الاحتياطية بنسبة 100%. لا يعني ذلك أن هذا النوع من الأبحاث سيتوقف في مرحلة ما، بل ما سيحدث هو العكس غالبا، ولكنه استدراك ضروري لتوضيح أننا نحتاج للمزيد من الوقت والدراسة للوصول في مرحلة ما إلى نسخة أفضل من هذا النوع من العلاجات الثورية، يمكن تطبيقها مستقبلا على البشر. سينكلير يتفق مع تلك الفكرة كذلك، لكنه يشير إلى أن الاستخدامات الفعلية لهذه المعرفة الجديدة قد تبدأ خلال سنوات في علاج بعض الأمراض. لكن يبقى أن هذه النظرية لا شك ستغير الطريقة التي ننظر بها إلى عملية الشيخوخة، وستظل فكرة أن الجسم يمكن أن يتذكر كيف يتجدد ويصبح صغيرا مرة أخرى عبر العودة إلى نسخته الاحتياطية مدهشة، تدفع عددا أكبر من العلماء يوما بعد يوم للدخول في هذا النطاق. ساعد في النشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك المصدر: منتديات حبة البركة - من قسم: تجارب علاجية مع أمراض مختلفة |
||||||||||||||
|
|
|